كيف يستخدم دماغك الانحيازات المعرفية ليخدعك؟ وكيف يُمكنك التغلّب عليها؟

Cognitive biases are inside us all

تحدثنا في المقالة السابقة عن أحد الانحيازات الموجودة في النفس البشرية بشكل فطري. وهو تجنّب المعلومات غير المنطقية التي تسبب تنافراً معرفياً، ومحاولةُ دماغنا لإيجاد أسباب منطقية لها. كأن نحب العمل التطوعي أكثر من العمل المدفوع.
سنتحدث اليوم عن ثلاث انحيازات معرفية أخرى شبيهة بالسابقة:

2- أول الانحيازات التي سنتحدث عنها يُعرف بـThe Lake Wobegon Effect

دعونا نبدأ بسؤال بسيط، وأتمنى أن تجاوبوا عليه بينكم وبين أنفسكم بصراحة وصدق.
إذا أردتَ أن تُقيّم نفسك بالمقارنة مع الآخرين في مجال معيّن (لنفترض في الذكاء بشكل عام) فكم تعطي لنفسك علامة بين الـ1 والـ10؟.
هل كان تقييمك لنفسك بين الـ6 والـ8؟
لا تقلق، لست لوحدك.
يعد هذا الانحياز -كغيره من الانحيازات المعرفية- طبيعياً جداً. بل إنه من غير الطبيعي أن يكون غير موجود (أي أن تُقيّم نفسك دون الـ5 أو أن تمنح نفسك العلامة التامة مثلاً).
يميل معظم الناس (80% حسب بعض الدراسات) لأن يُقيّموا مهاراتهم المتنوعة وذكائهم على أنه أعلى من المتوسط بقليل (أي 6-8 من 10).
يُدعى هذا الانحياز بـ: Illusory Superiority وقد تعمّدتُ عدم ذكر اسمه في العنوان كل لا يؤثر ذلك على إجاباتكم
وبينما نستطيع تقييم الآخرين بشكل موضوعي، إلّا أننا نفشل فشلاً ذريعاً عندما نقيّم أنفسنا. إذ نميل لتقييم أنفسنا بشكل إيجابي.

لماذا يحدث هذا الانحياز؟

هناك عدّة نظريات تُفسّر ذلك:

  • أولها أننا لا نتلقى الكثير من الملاحظات من الآخرين عن أدائنا بشكل عام. وإنْ تلقينا بعض الملاحظات فإنها غالباً ما تكون إيجابيّة وداعمة. فكثيراً ما يخجل الآخرون أن يَذكروا عيوبنا أمامنا.
  • أما النظرية الثانية فتنظر إلى ذلك على أنّه اختلاف في المعايير التي نعتمدها لتحديد مدى براعتنا أو جودتنا في القيام بشيء ما. كأن يعد الأب نفسه أباً جيّداً رغم أنّه يقسو على أبنائه ظاناً أنّه يقوم بذلك لمصلحتهم. أي أن اختلاف معايير النجاح هي السبب في هذا الانحياز.
  • أما النظرية الأخيرة والأقرب إلى الصحّة فتنص على أننا نملك بفطرتنا نزعة صحيّة نحو الوثوق بقدراتنا وإمكانياتنا. وهذه المَلَكة تحمينا من بعض الأمراض النفسيّة.


وكما ذكرنا فإن هذا الانحياز محققٌ في كل المجالات، ولكنه أكثر وضوحاً في بعض المهارات بعينها (كقيادة السيارة أو الأعمال التطوعيّة أو معدّل الذكاء IQ) بالمقارنة مع غيرها (كالتنس والشطرنج). كما أنه موجود في كل الأعمار.
وقد لاحظتْ بعض الدراسات أيضاً أن هذا الانحياز موجود عند سكان الأمريكيتين أكثر من سكان الصين واليابان وشرق آسيا وذلك له علاقة بتنشئتهم ومعتقداتهم.
وأشارت الدراسات إلى أن الفاشلين في مجال ما يخطئون في تقييم أنفسهم فيبالغون بقدراتهم ومستواهم. بينما يقلل المبدعون في هذا المجال من قيمة أنفسهم ظناً منهم أن هذه المهارة سهلة جداً وبالتالي فإنها سهلة على غيرهم أيضاً.

من الانحيازات المعرفية - توهّم التفوّق
من الانحيازات المعرفية – توهّم التفوّق

ذكرنا أن هذا الانحياز مفيدٌ لصحتنا النفسية فكيف ذلك؟

يُقللُ المصابون بالاكتئاب أو القلق وبعض الأمراض النفسية الأخرى من تقييمهم لأنفسهم (لذلك يُمكن اعتبار هذا الانحياز كالدرع الذي يحمي ثقتنا بأنفسنا حسب تعبير Mark Horswill).

حسناً ما الحل؟ كيف أستطيع أن أُقيّم نفسي بشكل صحيح؟

يقترح عالم النفس David Dunning أن عليك أن تنظرَ إلى الآخرين من حولك وتحاولَ تقليد أفعالهم المُلهمة. فبما أنك لا تستطيع أن تُقيّم نفسك جيداً فعليك أن تُقيّم أفعال الآخرين ومن ثم تُحاكي جيّدها. كما يُؤكد أيضاً على أهمية النقد وضرورة تشجيع الآخرين على إبداء الرأي الصريح، لأننا بطبيعتنا لن نرى أنفسنا بالوضوح الذي يرانا به الآخرون.

3- من الانحيازات الأخرى التحيّز لدعم الذات The Self-Serving Bias

نميل عموماً لأن نَنسب الأمور الجيّدة لأنفسنا والأمور الخاطئة للآخرين والظروف المحيطة بنا.
المثال النموذجي لهذا الانحياز هو الطلاب بغض النظر عن عمرهم. حيث يُعد هذا الانحياز من الانحيازات المنتشرة بكثرة عندهم.
إذا سألت طالباً حصل على علامة ممتازة في مادة ما عن سبب ذلك، فسيقول لك أنه يحب هذه المادة بالفعل أو أنّه درسها بجد. ولكن إذا سألته لماذا لم تجتز امتحان مادة أخرى فسيحاول أن يعزي ذلك للآخرين كأساتذته أو الظروف المحيطة كجامعته وغيرها. من الأمثلة الحديثة الأخرى لذلك أن نعتقد أن التلوث المناخي ناتجٌ عن تصرفات الآخرين كلياً، وأن أفعالنا لا علاقة لها بالتغير المناخي إطلاقاً.

حسناً، ولكن ما سبب ذلك؟

يُعزى ذلك إلى ميل الناس عموماً لـ:

  • الاعتقاد أن أفعالهم وتصرفاتهم وسلوكياتهم ستكون ناجحة غالباً ولا يمكن أن تُخطئ أو تفشل.
  • قدرتهم على ربط السلوكيات بالنتائج في حالة النجاح أكبر بالمقارنة مع حالات الفشل. أي أننا عندما ننجح فإننا نتذكر تصرفاتنا التي أدت لهذا النجاح ونربط نجاحنا بها. بينما عندما نفشل فإننا غالباً لا نربط هذا الفشل بتصرفاتنا، رغم أنها قد تكون سبباً رئيسياً لهذا الفشل.
  • عدم القدرة على تمييز الحالات الطارئة وتأثيرها على النتيجة العامة للسلوك. أقصد بذلك تلك الأحداث الصغيرة التي لا نُعيرها أي اهتمام، إلا أن لها تأثير كبير على أدائنا وطريقة تعاملنا مع المواقف.

تضطرب هذه النظرة الطبيعية في بعض الأمراض كالاكتئاب حيث تخف أو تنعكس تماماً. فقد يعزي مرضى الإكتئاب الفشل لأنفسهم (كأن يقولوا “أنا فاشل” أو “لا قيمة لي” أو “لا يمكن أن أنجح”) ويعزوا النجاح لغيرهم. أما في حالات أخرى كالهيجان والغضب، فقد يعزي المصابون بذلك الفشلَ لأنفسهم وللمحيط معاً.

حسناً ماذا سأستفيد من معرفتي بهذا الانحياز؟

  • أولاً إن فهم هذا الانحياز بحد ذاته -كما هو الحال في بقية الانحيازات- أمرٌ مفيد حقاً لتجنّب آثاره السلبية. فذلك يساعد على التفكير بمنطقية وعقلانية لتحديد أسباب النجاح أو الفشل والبناء على ذلك بدلاً من الاستسلام لآلية الدفاع هذه.
  • وثانياً، يجب عليك تنمية تقبلك لذاتك وإمكانية خطئها. لأن التعاطف مع ذاتك وتقبّل الأخطاء الشخصية يسمح لك بالتطوّر دون أن تؤثر عليك هذه الآلية الدفاعية. ولكن مع الحذر لعدم الوصول لمرحلة “أنا فاشل” التي تحدثنا عنها.
  • إن كثرة التفكير بالمواقف واجترارها يجعلك تفكّر بأسباب المشاكل، وبالتالي سيعيقك ذلك عن المضي قدماً وتجاوز هذه المواقف. وبالمناسبة فإن هناك بعض الطرق التي تساعدك على التوقف عن التفكير الزائد ويمكنك الاطلاع عليها هنا.
من الانحيازات المعرفية - التحيز لدعم الذات
من الانحيازات المعرفية – التحيز لدعم الذات

4- آخر الانحيازات التي سنتحدث عنها يعرف أيضاً بتأثير بقعة الضوء The Spotlight Effect:

هل تعرضتَ لموقف محرج سابقاً، كأن تمشي في الشارع بقميص متسخ أو ممزق معتقداً أن الكل ينظر إليك وإلى قميصك؟
نميل جميعنا لأن نظن أن الآخرين من حولنا ينظرون إلينا ويدققون في تفاصيل ما نلبسه أو ما نقوم به. وكأننا نظن أن الأضواء موجّهة نحونا.
طلبَ Tom Gilovich في تجربة قام بها لتقصّي هذه الظاهرة من مجموعتين من الطلاب الجامعيين أن يرتدوا قمصاناً مخصصة. حيث طُبع على قمصان المجموعة الأولى صورٌ لشخصياتٍ محبوبة (كمارتن لوثر كينغ في هذا المثال). وطُلب من المجموعة الثانية أن يرتدوا قُمصاناً طُبع عليها صورٌ لشخصيات بغيضة (كهتلر). طُلب بعد ذلك من هاتين المجموعتين أن يُمارسوا نشاطاتهم اليومية الاعتيادية في جامعاتهم ومن ثم يُقدّروا نسبة الأشخاص الذين التقوهم وانتبهوا لما يرتدونه. في حين سُئل هؤلاء الأشخاص الذين التقوهم فيما إذا كانوا قد لاحظوا فعلاً ما يرتدونه.
كانت النتيجة أن الطلاب بالغوا في تقدير عدد الأشخاص الذين انتبهوا فعلاً لما يرتدونه، ظناً منهم أن الضوء كلّه موجّه نحوهم ولكنه في الحقيقة لم يكن كذلك!
والذي يحدث هو أننا نركّز على أنفسنا لدرجة نعتقد فيها أن الآخرين يُركّزون علينا أيضاً ولكنّهم يكونون مركّزين على أنفسهم بدورهم.
من المواقف المشابهة التي يظهر فيها تأثير هذا الانحياز جلياً عندما نكذب ونكون حذرين جداً في انتقاء كلماتنا كي لا يُكشَف أمر كذبتنا. وقد نظنُّ أن الآخرين قد كشفوا كذبتنا فعلاً، ولكنهم يكونون غير منتبهين إطلاقاً لهذه الكذبة. (لذلك اكذبوا ولا تدققوا كتير.. لا تصدقوا ها)

كيف نستطيع توظيف معرفتنا بهذا الانحياز في حياتنا اليومية؟

يتواجد هذا الانحياز في كل الفئات العمريّة، ولكنّه يكثر ضمن المراهقين، ولهذا علاقة بتنشئتهم وطريقة تفكيرهم، فتراهم مهتمين كثيراً بمنظرهم وبما يرتدونه معتقدين أن الأعين كلها تنظر إليهم وخاصةً عندما يُخطئون.
لذلك يُمكنك أن تَشرحَ لهم هذه الفكرة وتُطمئنهم. لأن هذه المواقف قد تُضعف من ثقتهم بأنفسهم أو تقودهم لتصرفات غير منطقية (كشراء الكثير من الملابس بحجة أن الآخرين لاحظوا أنني أرتدي نفس الملابس كثيراً).
أخيراً، هناك مقولة منتشرة بين البعض، وهي أنك عندما تسأل الآخرين وهم على وشك الوفاة عن الأمور التي يندمون عليها في حياتهم، فسيقولون لك أنهم يندمون على الأشياء التي لم يفعلوها في حياتهم.
وهنا يُفسّر Gilovich ذلك بأنهم كانوا يخافون أن يبدوا أغبياء أو أن يفشلوا في هذه الأشياء وبالتالي يتجنبون القيام بها.
يكمن تفسير هذا الانحياز في أننا نشعر بأننا مركز الكون حرفياً. وهذا ليس بالأمر المعيب على الإطلاق. لأننا نعني بذلك أننا ننظر إلى الكون من مكاننا نحن، أي أننا نقيّم العالم بناءً على نظرتنا إليه وتجاربنا الشخصية فيه، وبالتالي فإننا نقيم الآخرين بناءً عليها ولكننا نفشل في تقدير قيمتنا بالنسبة للآخرين الذين يظنون بدورهم أنهم مركز الكون أيضاً.

كانت هذه بعض الانحيازات المعرفية التي نتشاركها جميعاً. وكما ذكرنا فإنه من المهم أن نتعرّف عليها، فبعد أن نعي هذه الانحيازات نستطيع الانتقال للخطوة التالية المتمثلة بالتعامل معها وتجنب تأثيراتها السلبية على قراراتنا وأفعالنا، رغم أنها تعد من آليات الدفاع الضرورية جداً بالنسبة للنفس البشرية.
هل تعرفون أيّاً من الانحيازات الأخرى التي تحكم حياتنا اليومية؟ شاركونا إياها في التعليقات


وسوم المقالة

4 أفكار عن “كيف يستخدم دماغك الانحيازات المعرفية ليخدعك؟ وكيف يُمكنك التغلّب عليها؟”

اترك تعليقاً

Dr Hamzeh Koumakli Blog

Scroll to Top